حتى هي .. كانت تتألم
- ماذا تريدين أن تطلبي..؟
- آآآ .. لا أعرف.. وجبة برغر دجاج.. كلا.. كلا.. برغر لحم..
- .. بدون جبن؟
- ممم.. لحظة.. كلا.. لا أريد برغر لحم.. أريد قطع الدجاج..
- يووووه.. هيفاء!! هيا بسرعة نريد أن نطلب الآن..
- طيب.. اصبري شوي.. خليني أفكر...
- أففففف.. استغفر الله.. الطلب معك مأساة..
- لماذا تصرخين علي هكذا ..؟ لم أقل شيئاً..
فصرخت أريج بقوة وهي تمسك بسماعة الهاتف:
- وأنا أيضاً لم أقل شيئاً.. هيا اطلبي.. ذبحتينا.. ألا يكفي أنني سأشتري لك على حسابي وأيضاً (تنفخين)؟!
شعرت بالكره لنفسي وأنا أهان لهذه الدرجة..
- خلاص.. لا أريد شيئاً.. تمنين بهذه الوجبة.. لا أريدها.. اهنئي بها.. لا أريد منك شيئاً..
اشتد الصراخ بيننا وخرجت غاضبة من غرفتها.. دائماً تنتهي لحظاتنا السعيدة بسرعة.. وتحل مكانها الشجارات والإهانات وجروح القلب العميقة..
كانت أريج تكبرني بعامين فقط..
وكان من المفترض أن نكون صديقتين.. لكن بدلاً من ذلك أجدنا نتحول لندتين على الدوام..
كانت أريج ذات شخصية قوية باهرة.. فهي دائماً في مركز القوة..
في المدرسة.. كانت دائماً الأكثر تفوقاً..
وفي الاجتماعات الأسرية.. كانت محط الأنظار بحديثها.. وبالكلمات التي تلقيها والمسابقات التي تعدها..
بل وحتى بالأطباق اللذيذة التي تعدها..
أمام أريج.. كنت لا شيء..
كنت الأخت الصغيرة التي تظل دوماً طفلة مقارنة بأختها الناضجة..
حتى قي المدرسة..
أينما أذهب كان شبح أريج يلاحقني..
ما أن تدخل الفصل إحدى المعلمات في أول أيام الدراسة.. حتى تبادر بسؤالي: أخت أريج؟؟
لا يتم تعريفي بهن إلا بأخوة (أريج) المتفوقة..
حتى لو فكرت أن أكون متفوقة وحاولت بقدراتي – المختلفة عن قدرات أريج – أن اجتهد.. فأنا لا شيء مقارنة بأريج..
لو حاولت أن أظهر في الإذاعة المدرسية وألقي موضوعاً بشكل عادي كما تفعل البنات.. فسأبدو ركيكة ومضحكة مقارنة بأريج ذات الإلقاء المبهر..
ضعفت شخصيتي يوماً بعد يوم تحت ثقل شخصية أختي..
حتى أصبحت أكره الاجتماعات الأسرية.. أكره المدرسة..
أكره أي مكان تتواجد فيه أريج..
وذات مرة قررت أن آخذ دورة في معهد للغة الانجليزية..
كنت فقط أريد أن أجرب الحياة في مكان لا توجد فيه أريج.. وشبحها الذي يحطمني..
وافقت أمي.. وكذلك أبي..
وبدأت في الدراسة خلال الصيف..
كانت المعلمة لطيفة.. ومجموعة الطالبات متناسقة رغم اختلاف أعمارهن..
بدأت أنسجم وأحب المكان.. وبدأ نجمي بالبزوغ بين هذه المجموعة..
كنت أعلاهن مستوى.. وكانت المدربة تحفزني كثيراً..
اعتبرتني نجمة الفصل.. وعينتني مساعدة لها كي أساعد الطالبات على فهم بعض المعاني..
وكانت هذه المرة الأولى في حياتي التي أشعر بها بأنني مميزة.. و.. فتاة جيدة..
لاحظت أمي تغير نفسيتي.. وفرحتي بالمعهد والدراسة فيه..
لكنها لم تكن لتعرف السبب.. ولا لتشعر به أصلاً..
وذات يوم فوجئت بأريج تدخل علي في غرفتي فرحة.. وتخبرني أن والدي وافق على أن تسجل هي أيضاً معي!!!
نزل الخبر على رأسي كالزيت الحار..
لاااا.. حتى هذا!.. حتى المكان الوحيد الذي شعرت فيه بالتميز ستأتي لتنافسني فيه.. ليس هناك فراغ واحد في حياتي يخلو منها؟؟!!
هل سيلاحقني شبحها حتى هناك..
رددت عليها بابتسامة صفراء باهتة.. دون أن أقول لها شيئاً..
لم يكن هناك من داع لأن أتكلم..
فأنا أعلم أنها هي أيضاً لا دخل لها بما يحصل.. فهي والحق يقال طيبة.. وأنا أعرف ذلك جيداً.. لكني سئمتها.. تعبت من المقارنة بها.. تعبت من محاولة الوصول لمستواها..
لا أحد يهتم بي حين تكون موجودة.. ولا أحد يحادثني باهتمام حين تتحدث..
فماذا أفعل..
أقفلت غرفتي علي وبدأت أبكي.. وأبكي..
أبكي لأن أحداً لا يشعر بي.. ولا يهتم بمشاعري
أنا.. لا أمي.. لا أبي.. لا أخوتي.. ولا معلماتي.. أنا أمامهم لا شيء..
لقد تعبت من التحطيم.. من التهميش.. إلى متى.. إلى متى يستمر ذلك..
سمعت طرقاً للباب.. وبغضب صرخت..
- من؟
- هيفاء.. ممكن تفتحين؟
- لا أريد أحداً.. أنت بالذات لا أريدك.. اذهبي.. أيتها الأفعى..!
سكتت أريج تماماً..
لا أعرف كيف خرجت تلك الكلمات من فمي عليها.. كنت أشعر بالغضب الشديد وأشعر أنها هي السبب في تعاستي.. كنت أتخيلها كأفعى تلتهم كل أشيائي الجميلة..
ساد الصمت.. حتى اعتقدت أنها ذهبت..
فإذا بصوتها ينساب من خلف الباب بأسى..
- خلاص.. خلاص يا هيفاء.. أنا لن أسجل في الدورة..
يا إلهي.. هذا معناه أنها سمعت بكائي قبل قليل.. وسمعت كلامي وتذمري.. مسكينة...
لكنني لم أحاول أن أتراجع أو أبدي أي انكسار.. فتحت الباب لها بقوة.. ووجهي أحمر.. والدموع لا يزال أثرها على وجهي..
- ماذا تريدين؟
- هيفاء أنا آسفة.. لم أعتقد أن تسجيلي سيضايقك..
- ما شاء الله؟! الآن.. الآن فقط أحسست بذلك؟.. للتو تحسين بنفسك وأنت تلاحقيني طوال عمري..؟!
فجأة رأيت الدموع في عينيها..
- حرام عليك يا هيفاء.. لماذا تعاملينني هكذا؟.. لماذا أنت قاسية علي؟.. دائماً أشعر أنك تكرهينني.. تحتقرينني.. كل الناس يحبونني إلا أنت.. دائماً تشعرينني بنظراتك بأن من العيب أن أكون متفوقة أو نشيطة.. نظراتك الحادة دائماً تربكني وتشعرني أني تافهة وغبية.. حتى أمام زميلاتي.. كثيراً ما أحرج حين أحادثك في المدرسة فأجدك تردين علي بكل برود ولا مبالاة.. لماذا تعاملينني بكل هذه القسوة.. أنا.. أنا .. لم أفعل شيئاً لك..
كانت دموعها وعبراتها تسبقها وهي تتحدث..
شعرت بعطف شديد عليها.. هل فعلاً كنت أعاملها بقسوة وكأنها تافهة جداً؟.. نعم.. لقد كنت أفعل ذلك.. لكن لم أعرف أنها تشعر بذلك.. مسكينة..
جلست تبكي على سريري وقد وضعت رأسها بين كفيها.. فاقتربت منها ومسحت على كتفها..
- لا بأس.. يمكنك أن تسجلي في المعهد..
نظرت إلي باستغراب.. وابتسمت..
- أي معهد أي بطيخ.. لقد نسيته أصلاً..
فابتسمت وضحكت..
منذ ذلك اليوم قررنا أن نبدأ صفحة جديدة من علاقتنا ببعضنا.. وتحولنا من ندتين إلى صديقتين.. أصبحت أصارحها بكل ما أشعر به تجاهها وهي كذلك.. ولم تعد هناك الكثير من الآلام المحبوسة في القلوب.. ولا تلك الرسميات والمشاعر الحساسة..
- ماذا ستطلبين؟
- برغر دجاج.. كلا لحم..
- بسرعة ذبحتينا..
- طيب.. خلاص.. وجبة قطع دجاج..
- حرام عليك هذه الوجبة غالية.. تعرفين أني سأدفع..
- لا بأس ادفعي.. فأنا أشتهيها اليوم.. لن يضيع المال الذي تضعينه في بطن أختك..
- يااااااااالله تستاهلين ولا يهمك.. لكن ترى إذا نقصت الفلوس تدفعين.. طيب؟